الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} ثم تسبب عن جهله قوله لوزيره معلمًا له صنعة الآجر لأنه أوّل من عمله، قال عمر رضي الله تعالى عنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر ما علمت أنّ أحدًا بنى بالآجر غير فرعون {فأوقد لي} وأضاف الإيقاد إليه إعلامًا بأنه لابد منه {يا هامان} وهو وزيره {على الطين} أي: المتخذ لبنًا ليصير آجرًا، ثم تسبب عن الإيقاد قوله: {فاجعل لي} أي: منه {صرحًا} أي: قصرًا عاليًا، وقيل: منارة، وقال الزجاج: هو كل بناء متسع مرتفع {لعلي أطلع} أي: أتكلف الطلوع {إلى إله موسى} أي: الذي يدعو إليه فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهمًا لهم أنه مما يمكن الوصول إليه وهو قاطع بخلاف ذلك ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت.قال أهل السير: لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعًا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق أراد الله تعالى أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه فأمر بنشابه فضرب بها نحو السماء فردّت إليه وهي ملطخة دمًا فقال: قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعد على البراذين فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقع منها قطعة على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ثم زادهم شكًا بقوله مؤكدًا لأجل رفع ما استقرّ في الأنفس من صدق موسى عليه السلام {وإني لأظنه} أي: موسى عليه السلام {من الكاذبين} أي: دأبه ذلك وفرعون هو الذي قد لبس وكذب ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة نفسه الغريقة في العدوان.{واستكبر} أي: أوجد الكبر بغاية الرغبة فيه {هو} بقوله هذا الذي صدّهم به عن السبيل {وجنوده} بإعراضهم لشدّة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل {في الأرض} أي: أرض مصر قال البقاعي: ولعله عرّفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل {بغير الحق} أي: بغير استحقاق قال البقاعي: والتعبير بالتعريف يدل على أنّ التعظيم بنوع من الحق ليس بكبر وإن كانت صورته كذلك وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله قال صلى الله عليه وسلم فيما حكاه عن ربه: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدًا منهما ألقيته في النار» {وظنوا} أي: فرعون وجنوده ظنًا بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع {أنهم إلينا} أي: إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عند انقطاع الأسباب {لا يرجعون} بالنشور، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم والباقون بضمّ الياء وفتح الجيم، ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال تعالى: {فأخذناه وجنوده} كلهم أخذ قهر ونقمة وذلك علينا هيِّن وأشار تعالى إلى احتقارهم بقوله تعالى: {فنبذناهم} أي: طرحناهم {في اليم} أي: البحر المالح فغرقوا فكانوا على كثرتهم وقوّتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الدرء من يده في البحر ونحو ذلك قوله تعالى: {وجعلنا فيها رواسي شامخات} (المرسلات).وقوله تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة}.ولما تسبب عن هذه الآيات من العلوم ما لا تحيط به الفهوم قال تعالى: {فانظر} أي: أيها المعتبر بالآيات الناظر فيها نظر اعتبار {كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {الظالمين} حيث صاروا إلى الهلاك فحذِّر قومك عن مثلها وفي هذا إشارة إلى أنّ كل ظالم تكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق ورابطه {حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين} ولما كان: «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» قال الله تعالى: {وجعلناهم} أي: في الدنيا {أئمة} أي: قدوة للضلال بالحمل على الإضلال، وقيل بالتسمية كقوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا}.أو بمنع الألطاف الصارفة عنه {يدعون} أي: يوجدون الدعاء لمن اغتر بحالهم فضل بضلالهم {إلى النار} أي: إلى موجباتها من الكفر والمعاصي، وأمّا أئمة الحق فإنما يدعون إلى موجبات الجنة من فعل الطاعات والنهي عن المنكرات: جعلنا الله تعالى وأحبابنا معهم بمحمد وآله، ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة وقد أخبر عن خذلانهم في الدنيا قال تعالى: {ويوم القيامة} أي: الذي هو يوم التغابن {لا ينصرون} أي: لا يكون لهم نوع نصرة تدفع العذاب عنهم.{وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة} أي: طردًا عن الرحمة ودعاء عليهم بذلك من كل من سمع خبرهم بلسانه إن خالفهم أو بفعله الذي يكون عليهم مثل وزره إن وافقهم، وإنما قال الله تعالى: {الدنيا} ولم يقل الحياة، قال البقاعي: لأنّ السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم.{ويوم القيامة هم} أي: خاصة ومن شاكلهم {من المقبوحين} أي: المبعدين أيضًا المخزيين مع قبح الوجوه والأشكال والشناعة في الأقوال والأفعال والأحوال من القبح الذي هو ضد الحسن من قولهم: قبح الله العدو أبعده عن كل خير، وقال أبو عبيدة: من المهلكين، قال البقاعي: فيا ليت شعري أي: صراحة بعد هذا في أنّ فرعون عدوّ الله في الآخرة كما كان عدوّ الله في الدنيا فلعنة الله على من يقول إنه مات مؤمنًا وأنه لا صراحة في القرآن بأنه من أهل النار وعلى من يشك في كفره بعدما ارتكبه من جلي أمره انتهى، وقد قدّمت الكلام في سورة يونس على قول فرعون وأنا من المسلمين.ثم إنه تعالى أخبر عن أساس إمامة بني إسرائيل مقسمًا عليه مع الافتتاح بحرف التوقع بقوله.{ولقد آتينا} أي: بما لنا من الجلال والكمال {موسى الكتاب} أي: التوراة الجامعة للهدى والخير في الدارين، قال أبو حيان: وهو أوّل كتاب نزلت فيه الفرائض والأحكام.{من بعدما أهلكنا القرون الأولى} أي: من قوم نوح إلى قوم فرعون وقوله تعالى حال من الكتاب جمع بصيرة وهي نور القلب أي: أنوار القلوب فيبصر بها الحقائق ويميز بين الحق والباطل كما أنّ البصر نور العين الذي تبصر به {وهدى} أي: للعامل بها إلى كل خير {ورحمة} أي: نعمة هنيئة شريفة لأنها قائدة إليهما، ولما ذكر حالها ذكر حالهم بعد إنزالها بقوله تعالى: {لعلهم يتذكرون} أي: ليكون حالهم حال من يرجى تذكره، ثم إنّ الله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وما كنت} أي: يا أفضل الخلق {بجانب الغربي} قال قتادة: بجانب الجبل الغربي، وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربي أي: الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار وهو ما يلي البحر من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرّفة من ناحية مصر فناداه فيه العزيز الجبار وهو ذو طوى {إذ} أي: حين {قضينا} أي: أوحينا {إلى موسى الأمر} أي: أمر الرسالة إلى فرعون وقومه وما يريد أن يفعل من ذلك في أوّله وأثنائه وآخره مجملًا فكان كل ما أخبرنا به مطابقًا تفصيله لإجماله {وما كنت} أي: بوجه من الوجوه {من الشاهدين} لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى عليه السلام حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي آتيناك به في هذه الأساليب المعجزة، ولا شك أنّ معرفتك لذلك من قبيل الأخبار عن المغيَّبات التي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله تعالى: {ولكنا} أي: بما لنا من العظمة {أنشأنا} بعدما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة وهم السبعون المختارون للميقات أو بالإخبار كلهم {قرونًا} أي: أمما كثيرة بعد موسى عليه السلام {فتطاول} أي: بمروره وعلوه {عليهم العمر} أي: ولكنا أوحينا إليك أنا أنشأنا قرونًا مختلفة بعد موسى عليه السلام فتطاولت عليهم المدد فنسوا العهود واندرست العلوم وانقطع الوحي فحذف المستدرك وهو أوحينا وأقام سببه وهو الإنشاء مقامه على عادة الله تعالى في اختصاراته فهذا الاستدراك شبيه بالاستداركين بعده، فإن قيل: ما الفائدة في إعادة قوله تعالى: {وما كنت من الشاهدين} بعد قوله: {وما كنت بجانب الغربي} لأنه ثبت بذلك أنه لم يكن شاهدًا لأنّ الشاهد لابد أن يكون حاضرًا؟أجيب: بأنّ ابن عباس قال: التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى.وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضمّ الهاء والميم، وحمزة في الوقف بضمّ الهاء وسكون الميم، والباقون في الوصل بكسر الهاء وضمّ الميم، ولما نفى العلم عن ذلك بطريق الشهود نفي سبب العلم بذلك بقوله تعالى: {وما كنت ثاويًا} أي: مقيمًا إقامة طويلة مع الملازمة بمدين {في أهل مدين} أي: قوم شعيب عليه السلام كمقام موسى وشعيب فيهم {تتلوا} أي: تقرأ: {عليهم} تعلمًا منهم {آياتنا} العظيمة التي منها قصتهما لتكون ممن يهتم بأمور الوحي ويتعرّف دقيق أخباره فيكون خبرهم وخبر موسى عليه السلام معك {ولكنا كنا مرسلين} إياك رسولًا وأنزلنا عليك كتابًا فيه هذه الأخبار تتلوها عليهم ولولا ذلك ما علمتها ولم تخبرهم بها.{وما كنت بجانب الطور} أي: بناحية الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام {إذ} أي: حين {نادينا} أي: أوقعنا النداء لموسى عليه السلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو من قبله، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله لأنك ما خالطت أحدًا ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه السلام ولا أحدًا حملها ممن حملها عنه ولكن كان ذلك إليك منا، وهو معنى قوله تعالى: {ولكن} أي: أنزلنا ما أردنا وأرسلناك به {رحمة من ربك} لك خصوصًا وللخلق عمومًا.وقيل: إذ نادينا موسى خذ الكتاب بقوّة، وقال وهب: قال موسى يا رب أرني محمدًا قال إنك لن تصل إلى ذلك وإن شئت ناديت أمّته وأسمعتك صوتهم قال: بلى يا رب فقال الله تعالى: يا أمّة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم، وقال أبو زرعة: نادى يا أمّة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وروي عن ابن عباس ورفعه بعضهم: قال الله تعالى يا أمّة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهمّ لبيك إن الحمد لله والنعمة لك والملك لا شريك لك، قال الله تعالى يا أمّة محمد إنّ رحمتي سبقت غضبي وعفوي عقابي قد أعطيتكم قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم من قبل أن تستغفروني من جاء يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا عبدي ورسولي دخل الجنة وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر.تنبيه:قال البيضاوي: لعل المراد به أي: بقوله تعالى: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا}.وقت ما أعطاه التوراة وبالأول أي: قوله تعالى: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا} حيث استنبأناه لأنهما المذكوران في القصة وقوله تعالى: {لتنذر} أي: لتحذر تحذيرًا كثيرًا {قومًا} أي: أهل قوّة ونجدة ليس بهم عائق عن أعمال الخير العظيمة إلا الإعراض عنك، وهم العرب ومن في ذلك الزمان من الخلق يتعلق بالفعل المحذوف {ما أتاهم} وعمم النفي بزيادة الجار في قوله تعالى: {من نذير} وزيادة الجار في قوله تعالى: {من قبلك} يدل على الزمن القريب وهو زمن الفترة بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام وهو خمسمائة وخمسون سنة ونحو هذا قوله تعالى: {لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم}.وقيل: ليس المراد زمن الفترة بل ما بينه وبين إسماعيل عليهما السلام على أنّ دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حولهم {لعلهم يتذكرون} أي: يتعظون.{ولولا أن تصيبهم} أي: في وقت من الأوقات {مصيبة} أي: عظيمة {بما قدّمت أيديهم} أي: من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنها {فيقولوا ربنا} أي: أيها المحسن إلينا {لولا} أي: هلا ولم لا {أرسلت إلينا} أي: على وجه التشريف لنا لنكون على علم بأنا ممن يعتني الملك الأعلى به {رسولًا} وأجاب التحضيض الذي شبهوه بالأمر ليكون كل منهما باعثًا على الفعل بقوله تعالى: {فنتبع} أي: فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع {آياتك ونكون} أي: كونًا هو في غاية الرسوخ {من المؤمنين} أي: المصدقين لك في كل ما أتى به عنك رسولك.
|